فصل: (سورة غافر: الآيات 30- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة غافر: آية 21]:

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)}.
هُمْ في {كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ} فصل. فإن قلت: من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين، فما باله واقعا بين معرفة وغير معرفة؟ وهو أشدّ منهم. قلت: قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام، فأجرى مجراها. وقرئ: {منكم} وهي في مصاحف أهل الشأم {وَآثارًا} يريد حصونهم وقصورهم وعددهم، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أرادوا: أكثر آثارا، كقوله:
متقلدا سيفا ورمحا

.[سورة غافر: الآيات 23- 25]:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)}.
{وَسُلْطانٍ مُبِينٍ} وحجة ظاهرة وهي المعجزات، فقالوا: هو ساحر كذاب، فسموا السلطان المبين سحرا وكذابا {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ} بالنبوّة: فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما في قوله قالُوا اقْتُلُوا أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا، يريد أن هذا قتل غير القتل الأول فِي ضَلالٍ في ضياع وذهاب، باطلا لم يجد عليهم، يعنى. أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء اللّه بإظهار من خافوه، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظا وحنقا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعا.

.[سورة غافر: آية 26]:

{وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)}.
{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى} كانوا إذا همّ بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحرا مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أنّ فرعون لعنه اللّه كان قد استيقن أنه نبىّ، وأنّ ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالا سفاكا الدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك.
وقوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى} تمويها على قومه، وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، بدليل قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلا وضياعا، كأنه قال: إنى أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه. أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز وأن يظهر بالواو، ومعناه. إنى أخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وقرئ: {يظهر} من أظهر، والفساد منصوب، أي: يظهر موسى الفساد. وقرئ {يظهر} بتشديد الظاء والهاء، من تظهر بمعنى تظاهر، أي: تتابع وتعاون.

.[سورة غافر: آية 27]:

{وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)} لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله: قال لقومه {إِنِّي عُذْتُ} باللّه الذي هو ربى وربكم، وقوله {وَرَبِّكُمْ} فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا باللّه عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض، فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، وقال {لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ} لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على اللّه وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها: وعذت ولذت: أخوان. وقرئ: {عت} بالإدغام.

.[سورة غافر: آية 28]:

{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}.
{رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} وقرئ: {رجل} بسكون الجيم كما يقال: عضد، في عضد وكان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا وقيل كان إسرائيليا و{مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لرجل. أو صلة ليكتم، أى: يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه: سمعان أو حبيب. وقيل: خربيل، أو حزبيل. والظاهر: أنه كان من آل فرعون، فإنّ المؤمنين من بنى إسرائيل لم يقلوا ولم يعزوا. والدليل عليه قول فرعون: {أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وقول المؤمن {فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا} دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه أَنْ يَقُولَ لأن يقول. وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله {رَبِّيَ اللَّهُ} مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدّة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم، ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أي: وقت أن تقول. والمعنى. أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره. وقوله بِالْبَيِّناتِ يريد بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا، {وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، {وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ} ما يعدكم إن تعرّضتم له. فإن قلت: لم قال: {بعض الَّذِي يَعِدُكُمْ} وهو نبىّ صادق، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال {وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه ولا يردّوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} فإن قلت: فعن أبى عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
ترّاك امكنة إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

قلت: إن صحت الرواية عنه. فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} يحتمل أنه كان مسرفا كذابا خذله اللّه وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه. وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه اللّه للنبوّة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان أشدّ من ذلك طاف صلى اللّه عليه وسلم بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا، فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر الصدّيق رضى اللّه عنه فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربى اللّه، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، رافعا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق: أنّ مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا، وأبو بكر قاله ظاهرا.

.[سورة غافر: آية 29]:

{يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)}.
{ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} في أرض مصر عالين فيها على بنى إسرائيل، يعنى: أنّ لكم ملك مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرّضوا لبأس اللّه وعذابه، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد. وقال {يَنْصُرُنا} و{جاءنا} لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه {ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى} أي: ما أشير عليكم برأى إلا بما أرى من قتله، يعنى: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب {وَما أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأى {إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ} يريد: سبيل الصواب والصلاح.
أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدّخر منه شيئا، ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر يعنى أنّ لسانه وقلبه متواطنان على ما يقول، وقد كذب، فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدا ولم يقف الأمر على الإشارة. وقرئ: الرشاد، فعال من رشد بالكسر، كعلام. أو من رشد بالفتح، كعباد. وقيل: هو من أرشد كجبار من أجبر، وليس بذلك، لأنّ فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدّة أحرف، نحو: درّاك وسارّ وقصار وحبار، ولا يصح القياس على القليل. ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد، كعوّاج وبتات، غير منظور فيه إلى فعل.

.[سورة غافر: الآيات 30- 31]:

{وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ (31)}.
{مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ} مثل أيامهم، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار، اقتصر على الواحد من الجمع، لأنّ المضاف إليه أغنى عن ذلك كقوله:
كلوا في بعض بطنكمو تعفوا

وقال الزجاج: مثل يوم حزب حزب، ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه، ولابد من حذف مضاف، يريد: مثل جزاء دأبهم. فإن قلت: بم انتصب مثل الثاني؟ قلت: بأنه عطف بيان لمثل الأوّل لأنّ آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت أهلك اللّه الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود، لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ} يعنى أن تدميرهم كان عدلا وقسطا، لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله تعالى {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} حيث جعل المنفي إرادة الظلم، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا، كان عن الظلم أبعد. وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلما مّا لعباده. ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} أي لا يريد لهم أن يظلموا، يعنى أنه دمّرهم لأنهم كانوا ظالمين.

.[سورة غافر: الآيات 32- 33]:

{وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)}.
التنادى. ما حكى اللّه تعالى في سورة الأعراف من قوله {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ} {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ} ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد: وهو أن يندّ بعضهم من بعض، كقوله تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فبيناهم يموج بعضهم في بعض: إذ سمعوا مناديا: أقبلوا إلى الحساب {تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارّين عن النار غير معجزين.

.[سورة غافر: الآيات 34- 35]:

{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام. وقيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب:
أقام فيهم نبيا عشرين سنة. وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه.
وقيل: هو فرعون آخر. وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين حَتَّى إِذا قبض {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} حكما من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه، وليس قولهم {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} بتصديق لرسالة يوسف، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها، وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. وقرئ: {ألن يبعث اللّه} على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرّر بعضا بنفي البعث. ثم قال كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ أي مثل هذا الخذلان المبين يخذل اللّه كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه {الَّذِينَ يُجادِلُونَ} بدل من {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت: لأنه لا يريد مسرفا واحدا، فكأنه قال: كل مسرف. فإن قلت: فما فاعل كَبُرَ؟ قلت: ضمير من هو مسرف. فإن قلت: أما قلت هو جمع، ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت: بلى هو جمع في المعنى. وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه، وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، وله نظائر، ويجوز أن يرفع الذين يجادلون على الابتداء، ولابد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتا، ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ يُجادِلُونَ} مبتدأ، و{بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ} خبرا، وفاعل كبر قوله {كَذلِكَ} أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال، و{يَطْبَعُ اللَّهُ} كلام مستأنف، ومن قال: كبر مقتا عند اللّه جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. وفي {كَبُرَ مَقْتًا} ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم، والشهادة على خروجه من حد إشكاله من الكبائر.
وقرئ: {سلطان} بضم اللام. وقرئ: قلب، بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، كما تقول: رأت العين، وسمعت الأذن. ونحوه قوله عز وجل {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف. أي: على كل ذى قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب.